الثلاثاء، 17 أغسطس 2010

سنوات ما قبل الكتابة
لؤي قور
ليليان.. مرسى بعد طول ترحال(15)
أغسطس.. وها أنت تكبرين في كل يوم.. وفي كل شهر وسنة، تزدادين نحافة.. وطولاً.. وسمرة، وتتعرف طفولتك الغضة ولأول مرة على مفهوم الابتسام. لعلك لا تعرفين مقدار ما تصنع ابتسامتك بداخلي من فرح، ومن سعادة، وما تثيره بداخلي من كوامن.. ومن ذكريات، تتغير ملامحك في سرعة، وتتحرك بين حين وآخر خطوة باتجاه الوضوح.. كنت تقتربين مني في واحدة من سنوات طفولتي، وتشبهين جدتك في مرحلة لاحقة من مراحل نموك الحثيث، فيا ترى من ستشبهين في نهاية المطاف؟ لا أعرف، لكن عيونك الأليفة كانت تذكرني بذلك الطفل الذي كان له معي شأن في سابقات الأعوام.. سمرته اللطيفة.. عيونه الصغيرة كعيونك، وهمته التي لا يشوبها الفتور، كان ذلك الولد الأسمر جزءاً من طفولتنا حين نلعب، وحين نتسامر مستعملين ما قر في عقولنا من مفردات قليلة سمحت بها ذاكرتنا الصغيرة والمحدودة تجاه اللغة في تلك الأزمان، كان يسكن على بعد خمس أحياء عن الضاحية التي هي محل سكنانا في ذلك الحين، يشاركنا اللعب والسباحة في ذلك اللسان النهري الموازي للنيل الأزرق، ونشاركه الطعام والحديث.. لم نكن نعرف عنه الكثير، اللهم إلا أنه على وثيق صلة بأسرة جارنا المخيف (ابن الصياد)، كان (ابن الصياد) هو أكبر مخاوف طفولتنا في ذلك الزمن.. عيونه التي تختفي خلف نظارته السوداء، وصوته الصارم.. والجهور. كان تحاشيه والهرب إلي المنازل بمجرد أن تلوح سيارته من البعيد هو أهم التدابير حينما يتعلق الأمر بلعب الشوارع، فكنا نرفع من وتيرة حذرنا عندما نستشعر قرب موعد عودته من العمل، ويذيع أول من يراه منا الخبر على الملأ حتى يحظى الجميع بفرصة النجاة مما يمكن أن يحيق به من عقاب... لكن ذلك الطفل الأسمر والغريب عن الحي والذي أطلقنا عليه اسم (ود بري) لم يكن يخشي ابن الصياد بخلافنا جميعاً، بل كان يتجه نحوه في هدوء كلما رآه غير عابئ بعيوننا المفتوحة على سعتها من الدهشة، ويمضي معه باتجاه منزله، ليلتقي أبناؤه الذين كانوا يشاركوننا اللعب قبل قليل، والمتظاهرون بأنهم لم يغادروا المنزل طيلة النهار.. يغيب(ود بري) داخل منزل ابن الصياد، ولا يخرج إلا في المساء عائداً باتجاه سكناه.. صار (ود بري) واحداً من أطفال الحي، وصار الجميع يتعاطى معه دون أن يكثر من الأسئلة عن السبب الذي يأتي به كل هذه المسافة ليلعب بعيداً عن الديار، لكن يبدو أنه كان للأسئلة وقتها أو أنها كانت موجودة ومؤجلة داخل النفوس. حتى كان ذلك اليوم حينما سأله صديقنا الشقي (سوسة) عن الأطفال في حيه البعيد والذي كنا لا نستطيع إدراكه إلا بالخيال.. قال (سوسة): (بتلعبو شنو في حلتكم ياود بري؟).. كان ذلك السؤال لغزاً في حد ذاته، ووخزة تنبيه قاسية لود بري تقرر عدم انتمائه للمكان، ولحظة تفكير مفاجئ تشبه الصدمة لطفولتنا التي ما كانت ترى في (ود بري) غير ما تراه فيما هم سواه من أطفال، لكن ودبري أجاب في بساطة معدداً بعض الألعاب التي لم تكن تختلف كثيراً عن ما كنا نلعبه في الضاحية.. ومر الموقف بسلام. تكررت زيارات ود بري بعد ذلك، وكان هو ملح ذلك الزمن حين نسترجعه بعد مضيه بسنوات، وفرداً مميزاً في مجتمع أطفال الضاحية... قدرته المخيفة على السباحة، وأداء الحركات الصعبة بالدراجة الهوائية، وما إليه من مهارات وضعته في مصاف النخبة بيننا إلي أن إنقطع عن الحي فجأة وانشغلنا نحن بما تحمل الطفولة من شواغل، وما يخالطها من سريع النسيان ... إختفي (ود بري) هكذا فجأة مثلما جاءنا بادئ الأمر، لكن (سوسة) عاد ليفجر بداخلنا ملايين الأسئلة مرة أخرى حينما قال أنه سمع والدته تقول بأن (ودبري) هو أكبر أبناء ابن الصياد، وأنه أنجبه قبل سنوات قليلة من حضوره للضاحية، وزواجه منها... لكننا استعنا مرة أخرى على حيرتنا بالنسيان، نسيت طفولتنا ودبري... ونسيت كذلك ما كان من أمره مع ابن الصياد، إلي أن سمعت القصة الكاملة لـ(ود بري) بعد سنوات وأنا أسأل عنه في استرجاع ملحاح لما كان بيننا في تلك الحقب البعيدة، يقولون أنه كان ثمرة حب بين (ابن الصياد) وتلك السمراء التي تسكن الضفاف... جميلة كانت تلك السمراء كما يقال، يقولون أن عيونها كانت تحمل كل الخصائص الوراثية للفرح، وكائنات الوجدان المسالمة .. واللا مبالية في آن، في عيونها فرحة لا ينتقص منها سوء فهم أو خبث تدبير، ويقولون بأنها كانت قادرة علي أن تمنح الفرح من الخطى ما يوصله لغاياته.. وما يفيض، وأنها كانت حريصة على إخفاء علاقتها بابن الصياد حتى أفشت الطبيعة سرهما الصغير، فكان ودبري هو تلك القشة التي قصمت ظهر ما كان بينهما من تواصل حميم ووضعتهما معاً على لائحة الإتهام في محاكم الحب الجزافية والناجزة.
يقولون أن ابن الصياد لم يعترف بثمرة ذلك الحب المحموم، وأنه وافق على أن يمنح الطفل كل ما يحتاجه من رعاية... وأن يمنح والدته ما يعينها على أن تقيل عثرة طفولته ولو بعد حين، لكنه رفض أن يمنح ذلك الطفل اسمه.. قال أنه أرفع شأناً من أن يرتبط اسمه بـ(كل هذه السمرة)، أو هكذا سولت له ورطته في واحدة من مواسم الإنكار، لعله لم يكن يحمل لتلك السمراء الكثير، فوجد أنه من غير اللائق أن يعترف بثمرة حب لم يرد منه صاحبه سوى المتعة، ولم تترد صاحبته في أن تستجيب لنداء قلبها دون إكتراث، فمنحت ابن الصياد كل ما كانت تحمل من مشاعر، وكل ما طاله وجدانها من تلك الكائنات الأليفة التي تسكن الأعماق، وهاهو (ود بري) يكبر.. يتعلم المشي والكلام، ويعرف من أمره ما يقوده للضاحية، ولمنزل ابن الصياد.. يأتي مستعيناً بما يسمعه من أمه من كلمات، ومستعيناً كذلك بنداء الدم الخفي عله يخفف يوماً من غلواء ما يحمله له والده من جفوة لا تعلم لها طفولته سبباً على وجه التعيين، فكان يشاركنا اللعب.. ولا يشاركنا الصخب والضجيج، كنت أظنه أبكماً بادئ الأمر لكوني لم أسمع له صوتاً في لقاءاتنا الأولى القليلة حينما تميل الشمس للمغيب... لم أكن أعرف من أين يأتي ذلك الطفل الأسمر بادئ الأمر، وكانت طفولتي أصغر من أن تبحث في مثل هذه الدوافع التي تقود طفلاً مسافة خمسة أحياء كاملة.. ليمارس الصمت كذلك بعيداً عن الديار، حتى أخوته لأبيه لم يتساءلوا يوماً عن من يكون، كانوا يتعاطون معه في طفولة.. وكانت نبرته الهادئة وحضوره الطاغي على الرغم من صمته، وملامحه الوسيمة فضلاً عن عيونه المميزة، كان كل ذلك يمنح ود بري خاصية النفاذ داخل من يتعامل معه من بشر، وهاهو ابن الصياد يتقبل زياراته في نهاية المطاف.. يستقبله في صمت ودونما ضجر، ويعامله في رفق وفي غير ما تعنت، حتى كان ذلك اليوم حينما اصطحب ابن الصياد زوجته لزيارة (ودبري) أو لزيارة منزل والدته السمراء، إذ كان الصغير قد قضى تحت عجلات سيارة مسرعة دهسته حينما كان يمارس هوايته المحببة في التمسك بمؤخرة عربات الكارو التي تجوب الدروب، وكان للسمراء حزنها المعلن كذلك والصريح، يقولون أنها احتضنت ابن الصياد أمام أعين زوجها وزوجته، وانخرطت في بكاء حار وهي تتمتم بمفردات توحي بتأكدها من الشراكة معها في الحزن داخل وجدان (ابن الصياد)، وهاهي تنحاز لمشاعرها مرة أخرى، وتعلنها على الملأ في غير ما خوف ولا تشكك.. كم كانت قوية في ضعفها، وكم كان هو ضعيفاً في قوته.
ليليان....
لك مشاعر تعلن عن نفسها في قوة دون أن تنتظر رأي أحد... دون أن تتدثر بالخفوت ودون أن تلتفت وهي تتحرك باتجاه غاياتها مرة واحدة نحو الوراء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق