الثلاثاء، 17 أغسطس 2010

خصوصية جمع تراث اللغات القومية


خصوصية جمع تراث اللغات القومية

د. الصادق محمد سليمان

(جمع تراث اللغات القومية)، كان هذا عنوان ما تناولته الورشة التي أقامها مجلس تطوير وترقية اللغات القومية، بقاعة الشارقة في يوليو الماضي، وقدمت في الورشة أوراق عمل عن اللغات، وأكّدت الورشة أنّ الصراع الثقافي اللغوي الذي يفضي إلى تهديد اللغات يعني بالضرورة تهديداً للجنس البشري؛ خاصة أن هنالك لغات انقرضت وأخري في طريقها للانقراض، نشرنا في الملف السابق الورقة التي قدمها بروفيسور/ الأمين أبو منقة محمد بعنوان: (أهم ملامح الخريطة اللغوية السودانية)، وبين يدي القاري الآن ورقة: (خصوصية جمع تراث اللغات القومية)، والتي قدمها د. الصادق محمد سليمان، وسنواصل في الملفات القادمة نشر الأوراق الأخرى التي قدمت في الورشة.

تتناولت هذه الورقة الخصوصية التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار عند جمع تراث المجموعات التي تتحدث لغاتها الأصلية في السودان، وهي خصوصية تنبع من كون هذه اللغات يقتصر استخدامها على أفراد المجموعة الواحدة، مما يجعل جمع التراث محدداً ببعض القيود التي قد لا توجد في الحالات العادية؛ حيث تكون اللغة المستخدمة في الجمع هي اللغة الغالبة وهي العربية، إضافة إلى تعقيدات أخرى، منها أن هذه اللغات غير مكتوبة، مما يجعل تدوين المادة أمر في غاية الصعوبة باستخدام حروف اللغات المكتوبة، فضلاً عن أنه لابد من ترجمتها إلى لغة مكتوبة في حالة نشر المادة.

التراث المقصود هنا هو التراث الشعبي، الذي هو مجموعة من العناصر التي تميز مجموعة من الناس، والذي ينتقل شفاهة، أو بصرياً، أو بالممارسة، وتتميز هذه العناصر بأنها تبقى لفترة زمنية بين أعضاء هذه المجموعة، كما ان هذا التراث يمكن أن ينتقل كتابة أو بوسائل الاتصال الحديثة.

اللغات القومية:

اللغات القومية هنا هي اللغات الأصلية التي تتحدث بها المجموعات داخل السودان كلغة أم.

علاقة اللغة بالتراث:
علاقة اللغة بالتراث علاقة عضوية، ومن خصائص التراث الشفاهي أو ما يعرف بالفنون القولية أن التعبير عنها يتم بالكلمة المنطوقة، وفي معظم الأجناس الفولكلورية وجميع الأشكال القولية فيها، فإن البنية هي اللغة، وبالتالي فإن التكوينات البنائية فيها هي تكوينات لغوية.

ورغم أننا في هذا التناول نتحدث بصورة شاملة عن التراث بكل عناصره بما فيها المادية، إذ أن علاقة اللغة بالتراث لا تقتصر على الفنون القولية أو التراث الشفاهي فقط؛ فالجوانب الممارسة من التراث أو الأدائية كالفنون وكذلك الثقافة المادية كلها تدخل في هذه العلاقة مع اختلاف الدرجة، فالممارسات من عادات وتقاليد لها مسمياتها في كل لغة، وعناصر الثقافة المادية كذلك، فالساقية وهي أداة من أدوات التكنولوجيا التقليدية تستخدم للري في شمال السودان، نجد أن مسميات أجزاؤها باللغة النوبية، مما يعني أن النوبيين هم أول من عرف الساقية في السودان، وما قيل عن العادات والتقاليد وعناصر الثقافة المادية يمكن أن يقال على بقية عناصر التراث، مما يؤكد القول أن جميع عناصر التراث تسهم في الحفاظ على اللغات لأن هذه المسميات تستمر من خلال هذه الممارسات حتى لو اندثرت اللغة.

اللغة هي وسيلة التواصل والتثاقف بين الجماعات البشرية، وهي وسيلة التفكير والتعبير والإبداع، والحديث عن اللغة سواء باستخدامها كوسيلة لجمع التراث أو عن أهميتها كوسيلة للتواصل بين الجماعات الواحدة أو بين الجماعة وغيرها من الجماعات فإن ذلك لا يتم بمعزل عن الجماعة نفسها وحياتها والبيئة من حولها.

والتراث الشعبي نتاج لممارسة الجماعة لحياتها بطرق مألوفة لدى هذه الجماعة يتشارك مع اللغة في أن كلاهما من المكونات الأساسية لهوية الجماعة باعتبار أن كل منهما يميز هذه الجماعة عن غيرها من الجماعات.

وعلاقة اللغة بالتراث قديمة في مجال الدراسات الإنسانية فالأخوين جريم الألمانيان عندما بداء دراستهما عن أصل اللغة لجاءا إلى التراث حيث قاما بجمع الحكايات الشعبية الألمانية، كما أن ماكس مللر وهو أحد رواد المدرسة الأسطورية حاول تفسير الأساطير بظاهرة سماها (مرض اللغة) والتي كان يقصد بها عملية الغموض التدريجية في المعنى الأصلي للكلمات، وهذا ما يطلق عليه في اللغويات المعاصرة عملية تغيير المعاني في اللغة.

كذلك فإن التكامل بين علم الفولكلور واللغويات يبدو بصورة جلية سواء في البدايات التاريخية لهذه العلوم أو في الدراسات المعاصرة، ولذلك لا غرابة أن يتجه الاهتمام باللغات القومية (الأصلية) إلى التراث باعتباره مستودعاً للغة الحية وتلك التي اندثرت أو في طريقها للاندثار.

واللغة نفسها لا يعتبرها علماء الفولكلور من التراث، رغم توافر عدد من المعايير التي تضفي على العنصر الثقافي صفة التراثية مثل التداول والانتقال، وتمييزها للجماعة، وتعبيرها عن الهوية الخ...، كما أنها هي التي تعطي معنى للتراث وبغيرها لا يمكن إدراك المضامين التي تحتوي عليها العناصر التراثية.

التعدد اللغوي والتنوع الثقافي:

السودان من البلدان التي يوجد بها تعدد لغوي وتنوع ثقافي كبير وهو في هذا ليس نسيج وحده، فهناك العديد من الدول في إفريقيا وآسيا تتمتع بهاتين الميزتين، وتشير المسوحات اللغوية التي تمت في السودان إلى وجود أكثر من مائة لغة يتحدث بها الناس داخل حدوده، هذا التعدد والتنوع له ايجابياته كما له سلبياته، فلكل لغة من هذه اللغات ثقافتها التي يمثل التراث فيها جزءاً أصيلاً ومهماً بما يحويه من جماليات ومضامين تربوية وأخلاقية وعملية، فكل ثقافة من هذه الثقافات تحتوي على رؤى ومفاهيم تجسد نظرتها حول نفسها وحول الآخر، وفي بعض الأحيان قد تحتوي هذه الرؤى والمفاهيم على أفكار سلبية تجاه الآخر، أوقد تتعارض هذه الأفكار مع مفاهيم ثقافة الآخر، بحيث تشكل عوائق في طريق العلاقات بين الجماعتين.

معلوم أن السودان بلد شاسع بحجم قارة، تتنوع بيئاته الجغرافية بمثل تنوع ثقافاته، بالتالي فان العمل في هذا الجانب يتطلب الكثير من الإمكانيات والجهود ومن أهم القضايا التي يجب الاهتمام بها، هو كيفية احترام هذا التعدد والتنوع وتوظيفه لصالح تنمية هذه الثقافات ومجتمعاتها، ومخاطبة القضايا التي تعاني منها البلاد منذ عقود من الزمن مثل التنمية والسلام، والتعايش القائم على احترام الآخر، والنزاعات والحروب التي استنزفت أرواح الكثيرين وشردت البعض، وهذا التوظيف لهذا التعدد والتنوع يستدعي أولاً أن نعرف حجمه وإمكانياته وايجابياته وسلبياته، وهنا تبرز أهمية جمع التراث فجمع تراث أكثر من مائة لغة ومعها ثقافاتها وتراثها عمل يحتاج لمجهود جبار تتكاتف فيه كل الجهات التي تهتم بجمع التراث من مراكز البحوث ومنظمات المجتمع المدني والأفراد من أصحاب المبادرات الشخصية في الاهتمام بالتراث.

فالمجهودات المقدرة التي بدأتها المراكز المتخصصة مثل قسم الفولكلور بمعهد الدراسات الإفريقية والآسيوية ومركز تسجيل ودراسة الحياة السودانية بوزارة الثقافة وجهات عديدة رسمية وأهلية استطاعت أن تخلق وعياً بالتراث لدى المواطن السوداني خلال العقود المنصرمة، ونشط العديد من أبناء المناطق في محاولات لجمع تراث ولغات أهلهم بمجهوداتهم الشخصية، كما استطاعت تلك المجهودات ونخص بها مجهودات قسمي الفولكلور بمعهد الدراسات الإفريقية ومركز دراسة الفولكلور بوزارة الثقافة (مركز تسجيل وتوثيق الحياة السودانية حالياً)، في أنهما استطاعا أن يجمعا تراث العديد من المجموعات التي تتحدث لغاتها الأصلية، وتضم أرشيفاتها مادة ضخمة من التسجيلات الصوتية والمرئية والتدوين، وقد أسهم هذا الجهد في حفظ تراث هذه المجموعات بما فيه اللغة، وهو إنجاز مهم خاصة في ظل التغيرات الجذرية التي يشهدها السودان في جميع نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والديموجرافية.

هناك أهداف عديدة يذكرها الفولكلوريون للتدليل على أهمية جمع التراث الشعبي، مثل حفظ هذا التراث للأجيال القادمة، والمحافظة على الهوية، والمحافظة على اللغة، وتوظيف إمكانيات التراث لخدمة القضايا المعاصرة للمجتمعات، كالتنمية، والسلام، والوحدة الوطنية، توفير المعلومات عن المجتمع للعلوم الأخرى الخ... وفي ظل التعدد اللغوي والتنوع الثقافي يكتسب جمع التراث أهمية للمجموعات المختلفة خاصة التي تتحدث لغاتها الأصلية بعداً إضافياً.

فبعض اللغات وكنتيجة لكثافة التمازج والاختلاط بينها وبين المجموعات الأخرى، وعوامل مثل الهجرات وغزو وسائل الاتصال الحديثة للمجتمعات حتى التقليدية والتعليم وغيرها من العوامل بدأ استخدام بعضها يتناقص تدريجياً خاصة عند الأجيال الجديدة التي نشأت في ظل تلك العوامل المذكورة، مما ينذر باندثارها بعد عقود قليلة من الزمن، وعليه فإن استكمال الجهود التي بدأت من قبل في هذا الخصوص يصبح أولوية بالنسبة للدراسات اللغوية والفولكلورية، وقد أشار أحد الباحثين إلى أن عمليات الجمع التي تتم لتراث هذه المجموعات في كثير من الأحوال لا تتم بنفس اللغة مما يجعل مثل هذا العمل ناقصاً، وفي هذا الخصوص يحمد لقسم الفولكلور بمعهد الدراسات الإفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم أنه قام بنشر تراث بعض المجموعات السودانية في سلسلة التراث السوداني، ومن بين هذه المجموعات عدد من المجموعات المتحدثة بلغاتها الأصلية، وكان جمع المادة وإعدادها يتم بواسطة جامعيين وباحثين من أبناء المنطقة، ولكن مع ذلك جمعت معظم هذه المواد باللغة العربية وليس لغة المجموعة.
والإبداع في الأدب الشعبي نجده بهذه اللغات المحلية كالأغاني الشعبية والأمثال والحكايات وغيرها كما هو الحال في جبال النوبة كمثال، فالجامع يواجه بصعوبة شديدة خاصة أنه لا يعلم محتوى المادة التي قام بجمعها، ولا يعرف أماكن النقص فيها والجامع من المنطقة لحسن الحظ لا تقابله هذه المشكلة.. وكثيراً ما يتجاهل الجامع للإنتاج من الأدب للغة الأصلية للمنطقة مفضلاً الإنتاج باللغة العربية مدفوعا بذلك بعدم معرفته للغة المحلية. وعلي الجامع أن يجمع مادته باللغة العربية واللغة الأصلية ثم يلجأ للترجمة من شخص ملم باللغة حتى يضمن أنه لم يتجاهل جزء من الإنتاج تكون له فائدة كبيرة"، كمثال على ذلك نجد أن بعض المواد المنشورة لتراث المجموعات كالمادة التي نشرت في سلسلة التراث السوداني (التراث الشعبي لقبيلة الفور) جمع وإعداد عبد الله آدم خاطر وموسى آدم عبد الجليل، استخدمت اللغة العربية فقط عند نشر المادة ولم ترد إشارة إلى اللغة التي تم بها الجمع، وأشار المعدان في مقدمتها إلى أنهما يرميان إلى التأكد على أن هذا التراث رافد في غاية الأهمية من روافد الثقافة السودانية، منطلقين في ذلك من طرح قدمه دكتور محمد إبراهيم الشوش في مؤتمر اللغات والآداب في السودان 1970م، يرى أن تعدد الثقافات يمكن أن يكون مصدر ثراء إذا ما فهم بطريقة سليمة ووجد الرعاية، كما يمكن أن يكون معوقاً للوحدة الوطنية إذا تم تجاهله والتقليل من شأنه.

والمثال الآخر هو كتاب "من حياة وتراث النوبة بمنطقة السكوت" جمع وإعداد سيد محمد عبد الله، فقد أشار في المقدمة أن مادة هذا لكتاب قد حفظت مسجلة بأصوات رواتها بأرشيف المعهد، لكن لم يوضح لنا هل كانت باللغة النوبية أم العربية، لأن مادة الكتاب مدونة باللغة العربية مع بعض المفردات باللغة النوبية مثل أسماء الآلات الزراعية وبعض الممارسات في العادات والتقاليد وأسماء بعض المأكولات وبعض مقاطع من الأغاني والأشعار، وكانت نصوص الحكايات باللغة العربية، أما الأمثال فكانت باللغة النوبية مع ترجمة لها باللغة العربية.

أما آدم الزين في التراث لقبيلة المسبعات، فقد أشار إلى لغة البحث حيث وصفها باللهجة المحلية لأن التراث المجموعة في هذا الكتاب لا يحتاج إلى تقديم أو شرح للذين يلمون باللغة الدارجة السائدة في ضواحي مدينة الفاشر والتي تأثرت بها قبيلة المسبعات.
فالمادة جمعت باللغة العربية بلهجة ضواحي الفاشر، وأورد في صفحة قائمة بذاتها بعض مفردات هذه اللغة ووصفها بأنها غير عربية وهي حوالي (17) كلمة أو لفظ
والمثال الآخر الذي نورده هنا لتوضيح التزام الجامعين باللغة الأصلية في جمع التراث، هو لمحمد أدروب أوهاج في كتاب التراث الشعبي لقبيلة البجا، في نفس سلسلة التراث السوداني وهذه التجربة هي الوحيدة التي التزم فيها الجامع والمعد باستخدام اللغة الأصلية للمجموعة في الجمع والنشر، فكل العناصر التي قام بجمعها من عادات وتقاليد وشعر وأحاجي وحتى الروايات التاريخية جاءت باللغة البجاوية فكانت الترجمة في صفحة وفي مقابلها التدوين باللغة البجاوية وقد أورد ملاحظة عن أمر الترجمة من اللغة البجاوية إلى اللغة العربية، إذ أشار إلى أنها كانت أمراً صعباً خاصة الشعر البجاوي لتباين اللغتين حسب قوله وقال: "لا زلت كلما قرأت بيتاً أو تدوين من الشعر البجاوي ثم أقراء الترجمة المس عدم التطابق بين النص والترجمة ولكن لا أجد خير مما قلت لأستبدله به "وقد استخدم الحرف اللاتيني لتدوين مادته".

في كتاب الكجور بذل محمد هارون كافي جهداً لتدوين نصوص بعض الأغاني التي تصاحب (الأسبار) وقد استخدم الحرف اللاتيني في تدوين هذه الأغاني، أما بقية المادة فكانت باللغة العربية.

خصوصية جمع تراث اللغات القومية:
اللغة عامل أساسي في عملية جمع التراث سواء بالنسبة للغة الأم أو اللغات القومية الأخرى (الأصلية) ولكنها في حالة الأخيرة هناك تعقيدات لابد من التعامل معها بشيء من الواقعية، فمعرفة الجامع باللغة التي تخص جماعة لغوية أمر حيوي للغاية فهي وسيلة التواصل بين الجامع والمجتمع، ومع الرواة والمؤدين، واللغة نفسها مستهدفة في هذا الجمع بغرض تحليلها لمعرفة تركيباتها وقواعدها ومفرداتها الدقيقة.

ويذهب حريز إلى القول: "في مرحلة التحليل اللغوي وخصوصاً فيما يتعلق بأنظمة الدلالات التي تختلف من لهجة إلى أخرى ومن لغة إلى لغة والتي يمكن أن تؤدي إلى سوء فهم غير مقصود في الوقت الذي ينشد فيه الناس السلام، ولهذا ينبغي أن يقوم على مثل هذه الدراسات أشخاص ممن لهم معرفة عميقة باللهجات فمثل هذه الدراسات يمكن أن تسهم في التفاهم المتبادل بين المجموعات العرقية والوحدة الوطنية".

والمعايشة أو التواجد في المجتمع والجماعة من الأمور المهمة، فذلك يعني أن الجامع من خلال وجوده يمارس التحدث باللغة والتفاعل مع الجماعة والمجتمع، ويتيح له ذلك أن يكون ملماً بتفاصيل حياة الناس في المنطقة، إضافة إلى ذلك يتيح له الجمع في أوقات مختلفة قد تكون مرتبطة بممارسات معينة قد لا تسمح الظروف للجامع العادي أن يحضرها في مواعيدها.

وهذان الأمران أساسيان في صلب المنهج الأنثروبولوجي الذي استفادت منه معظم العلوم الاجتماعية، ومنها علم الفولكلور فهذه تعتبر المداخل الصحيحة ومفاتيح أساسية لدراسة المجتمع ونظمه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية.

وفي حقبة الاستعمار سعت الدول الاستعمارية إلى معرفة لغات وثقافات الشعوب والجماعات العرقية، ووظفت المختصون في علم الانثروبولوجيا في نظامها الإداري في كثير من الدول المستعمرة في آسيا وإفريقيا ومنها السودان، وكان هدفها من ذلك أحكام سيطرتها على تلك الشعوب، كما وظف علم الفولكلور في بعض البلدان خاصة ذات النظم الاشتراكية لغايات أيديولوجية، وقد وجدت هذه الاتجاهات التي سادت في مرحلة تاريخية مبكرة في كل من الانثروبولوجيا والفولكلور انتقادات حادة سوداء في تاريخ العلمين.

هذه الانتقادات تدين العلماء الذين وظفوا العلم وليس العلم ذاته، لأن فلسفة العلم وأهدافه ومناهجه شيء وتوظيفه شيء آخر.

وبقدر ما اهتمت الحكومات الاستعمارية بمعرفة ثقافات الشعوب ولغاتها لتحقيق غايات معينة فإن حكومات ما بعد الاستعمار في الدول المستعمرة ومنها السودان لم تعي أهمية تراث وثقافات شعوبها وما بها من إمكانيات، بل كانت النظرة لمكونات هذه الثقافات التقليدية على أنها مظهر من مظاهر التخلف، وأسهمت عوامل عديدة بعضها مقصود وبعضها الآخر طبيعي، في إضعاف مؤسسات هذه الثقافات مما قلل من التزام الأفراد بالأعراف والتقاليد والنظم في هذه الثقافات.

الوصول إلى الأهداف:

المهام والأهداف التي حددها مجلس تطوير وترقية اللغات القومية عديدة ومن هذه الأهداف الواردة في قانون المجلس:
ـ ترقية وتدوين اللغات القومية المهددة بالاندثار وحماية تراثها الثقافي.
ـ تشجيع وترجمة وكتابة التراث السوداني الشفوي من اللغات القومية المختلفة مع التركيز على المضامين والتقاليد التي تعزز الوجدان المشترك.
هذان الهدفان فقط يمثلان تحد كبير للمجلس في ظل التعدد الذي تمت الإشارة إليه، وفي ظل اتساع مساحة البلاد، وفي ظل تسارع المهددات وعوامل التغيير فهذا العمل يحتاج إلى تكاتف جهود عديدة وإمكانيات كبيرة، ومن المهم أن توضع الخطط لهذا العمل على أن تشمل:
1. تحديد وضع اللغات القومية في السودان (مندثرة، مهددة بالاندثار، حية).
2. وضع خطة خمسية أو عشرية تعطي الأولوية فيها للغات المهددة بالاندثار
3. اختيار جامعيين من أبناء من مناطق اللغات القومية وتدريبهم على:
أ ـ طرق ومناهج جمع التراث.
ب ـ استخدام الأجهزة في عملية التوثيق.
ج ـ التدريب على طرق تدوين اللغة.
د ـ عقد ورشة سنوية تناقش فيها الأعمال التي أنجزها الجامعيون.
ه ـ توفير الأجهزة والمعدات اللازمة لعملية الجمع.
فالمادة جمعت باللغة العربية بلهجة ضواحي الفاشر، وأورد في صفحة قائمة بذاتها بعض مفردات هذه اللغة ووصفها بأنها غير عربية وهي حوالي (17) كلمة أو لفظ.
والمثال الآخر الذي نورده هنا لتوضيح التزام الجامعين باللغة الأصلية في جمع التراث، هو لمحمد أدروب أوهاج في كتاب التراث الشعبي لقبيلة البجا، في نفس سلسلة التراث السوداني وهذه التجربة هي الوحيدة التي التزم فيها الجامع والمعد باستخدام اللغة الأصلية للمجموعة في الجمع والنشر، فكل العناصر التي قام بجمعها من عادات وتقاليد وشعر وأحاجي وحتى الروايات التاريخية جاءت باللغة البجاوية فكانت الترجمة في صفحة وفي مقابلها التدوين باللغة البجاوية وقد أورد ملاحظة عن أمر الترجمة من اللغة البجاوية إلى اللغة العربية، إذ أشار إلى أنها كانت أمراً صعباً خاصة الشعر البجاوي لتباين اللغتين حسب قوله وقال: "لا زلت كلما قرأت بيتاً أو تدوين من الشعر البجاوي ثم أقراء الترجمة المس عدم التطابق بين النص والترجمة ولكن لا أجد خير مما قلت لأستبدله به "وقد استخدم الحرف اللاتيني لتدوين مادته".
في كتاب الكجور بذل محمد هارون كافي جهداً لتدوين نصوص بعض الأغاني التي تصاحب (الأسبار) وقد استخدم الحرف اللاتيني في تدوين هذه الأغاني، أما بقية المادة فكانت باللغة العربية.
خصوصية جمع تراث اللغات القومية:
اللغة عامل أساسي في عملية جمع التراث سواء بالنسبة للغة الأم أو اللغات القومية الأخرى (الأصلية) ولكنها في حالة الأخيرة هناك تعقيدات لابد من التعامل معها بشيء من الواقعية، فمعرفة الجامع باللغة التي تخص جماعة لغوية أمر حيوي للغاية فهي وسيلة التواصل بين الجامع والمجتمع، ومع الرواة والمؤدين، واللغة نفسها مستهدفة في هذا الجمع بغرض تحليلها لمعرفة تركيباتها وقواعدها ومفرداتها الدقيقة.
ويذهب حريز إلى القول: "في مرحلة التحليل اللغوي وخصوصاً فيما يتعلق بأنظمة الدلالات التي تختلف من لهجة إلى أخرى ومن لغة إلى لغة والتي يمكن أن تؤدي إلى سوء فهم غير مقصود في الوقت الذي ينشد فيه الناس السلام، ولهذا ينبغي أن يقوم على مثل هذه الدراسات أشخاص ممن لهم معرفة عميقة باللهجات فمثل هذه الدراسات يمكن أن تسهم في التفاهم المتبادل بين المجموعات العرقية والوحدة الوطنية".
والمعايشة أو التواجد في المجتمع والجماعة من الأمور المهمة، فذلك يعني أن الجامع من خلال وجوده يمارس التحدث باللغة والتفاعل مع الجماعة والمجتمع، ويتيح له ذلك أن يكون ملماً بتفاصيل حياة الناس في المنطقة، إضافة إلى ذلك يتيح له الجمع في أوقات مختلفة قد تكون مرتبطة بممارسات معينة قد لا تسمح الظروف للجامع العادي أن يحضرها في مواعيدها.
وهذان الأمران أساسيان في صلب المنهج الأنثروبولوجي الذي استفادت منه معظم العلوم الاجتماعية، ومنها علم الفولكلور فهذه تعتبر المداخل الصحيحة ومفاتيح أساسية لدراسة المجتمع ونظمه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية.
وفي حقبة الاستعمار سعت الدول الاستعمارية إلى معرفة لغات وثقافات الشعوب والجماعات العرقية، ووظفت المختصون في علم الانثروبولوجيا في نظامها الإداري في كثير من الدول المستعمرة في آسيا وإفريقيا ومنها السودان، وكان هدفها من ذلك أحكام سيطرتها على تلك الشعوب، كما وظف علم الفولكلور في بعض البلدان خاصة ذات النظم الاشتراكية لغايات أيديولوجية، وقد وجدت هذه الاتجاهات التي سادت في مرحلة تاريخية مبكرة في كل من الانثروبولوجيا والفولكلور انتقادات حادة سوداء في تاريخ العلمين
هذه الانتقادات تدين العلماء الذين وظفوا العلم وليس العلم ذاته، لأن فلسفة العلم وأهدافه ومناهجه شيء وتوظيفه شيء آخر.
وبقدر ما اهتمت الحكومات الاستعمارية بمعرفة ثقافات الشعوب ولغاتها لتحقيق غايات معينة فإن حكومات ما بعد الاستعمار في الدول المستعمرة ومنها السودان لم تعي أهمية تراث وثقافات شعوبها وما بها من إمكانيات، بل كانت النظرة لمكونات هذه الثقافات التقليدية على أنها مظهر من مظاهر التخلف، وأسهمت عوامل عديدة بعضها مقصود وبعضها الآخر طبيعي، في إضعاف مؤسسات هذه الثقافات مما قلل من التزام الأفراد بالأعراف والتقاليد والنظم في هذه الثقافات.
الوصول إلى الأهداف:
المهام والأهداف التي حددها مجلس تطوير وترقية اللغات القومية عديدة ومن هذه الأهداف الواردة في قانون المجلس:
ـ ترقية وتدوين اللغات القومية المهددة بالاندثار وحماية تراثها الثقافي.
ـ تشجيع وترجمة وكتابة التراث السوداني الشفوي من اللغات القومية المختلفة مع التركيز على المضامين والتقاليد التي تعزز الوجدان المشترك.
هذان الهدفان فقط يمثلان تحد كبير للمجلس في ظل التعدد الذي تمت الإشارة إليه، وفي ظل اتساع مساحة البلاد، وفي ظل تسارع المهددات وعوامل التغيير فهذا العمل يحتاج إلى تكاتف جهود عديدة وإمكانيات كبيرة، ومن المهم أن توضع الخطط لهذا العمل على أن تشمل:
1. تحديد وضع اللغات القومية في السودان (مندثرة، مهددة بالاندثار، حية).
2. وضع خطة خمسية أو عشرية تعطي الأولوية فيها للغات المهددة بالاندثار
3. اختيار جامعيين من أبناء من مناطق اللغات القومية وتدريبهم على:
أ ـ طرق ومناهج جمع التراث.
ب ـ استخدام الأجهزة في عملية التوثيق.
ج ـ التدريب على طرق تدوين اللغة.
د ـ عقد ورشة سنوية تناقش فيها الأعمال التي أنجزها الجامعيون.
ه ـ توفير الأجهزة والمعدات اللازمة لعملية الجمع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق