الأربعاء، 11 أغسطس 2010

ليليان... مرسي بعد طول ترحال (14)

سنوات ما قبل الكتابة
لؤي قور
ليليان... مرسي بعد طول ترحال

يوليو... قلت لك غير مرة أن شهور المنتصف ربما لا تحظي عندي بوافر ثقة، ولا كثير ترحاب، لعله انعكاساً لما كان من أمري معها في ما مضي من أعوام ... لكنه يوليو علي كل حال، وهو ثالث شهور المنتصف التي قاسمها الزمن عمرها هذه الأيام، وتركها علي ذلك الحال ما قبل المغادرة .. وما بعد المقام. وهو الخريف حين ينثر بشاراته علي الجميع بلا مقابل، وبلا ثمن، ودون أن ينتظر شيئاً .. يعيد تعريف نفسه كل عام، ويذكر بفصول مضت.. رسمت علي جدران الذاكرة ما رسمت من وشوم، ودونت فيها ما كان له الفضل في ترتيب الدواخل علي هذا النحو دون غيره، فكان الخريف في ذلك الزمان الأخضر طائراً أسود اللون، في بطنه بياض .. وفي عيونه الصغيرة ترقب آمن، وعودة وسيمة لم تكن تخلف مع طفولتنا موعداً، ولا تخيب لها رجاء كلما حل الخريف، وكان منقاره الطويل مدعاة تعجب واستبشار .. هو الخريف إذن، وهو ذات الطائر يعود إلي عشه بعد طول غياب .. لم يخطئ تلك النيمة سميكه الساق والجذور ... لم يضل طريقه مرة واحدة، ولم يختر سوي تلك الشجرة الأليفة مأوي وملاذ، فكان طائر السمبر هو بشارة ذلك الخريف الطفولي ... وكانت فراخه التي ينجبها كل خريف هي ثمرة عودته في كل عام، يظهر عليها الزغب والريش وتؤول إلي طيور كبيرة في نهاية الموسم .. تمتلك الفطرة والأجنحة، وتصير قادرة علي التحليق ... وقادرة علي الرحيل نحو ذلك البعيد الذي تجهله طفولتنا، وتعلمه الطيور بحكم ما ألفت من أماكن .. ومن عادات. وما بين عودة السمبر ورحيله المحتوم في نهاية الخريف كانت طفولتنا تمطر أحلاماً وذكريات.. ولعلك تخمنين أن شهور المنتصف لم تكن علي ما هي عليه من خبث منذ البداية، لكنها صارت إليه بعد أن حملت أيامها عدداً كافياً من الخيبات... وها هي فصول الخريف التي سكنت الذاكرة حينا من الدهر، وعددا مقدرا من السنوات تعلن عن نفسها بداخلي في خفوت .. أتذكر ذلك الخريف حينما كان المطر واحداً من شروط الطفولة، وكان الدعاش واحدة من الروائح الضرورية واللازمة للاستمرار .. وكانت هي ما يمنح كل ذلك وصفه المميز، وموقعه من الذاكرة .. ومن الوجدان. كان ذلك الخريف هو خريفها حين تصنع بيديها طعاماً علي طريقتها المحببة في اختيار صنف الطعام حسب الطقس والمزاج الكوني، فكنا نرقب كل ذلك ونقضي أسعد أوقاتنا في انتظار الطعام، وكانت تنفعل علي طريقتها الخاصة بما يعترينا من سعيد اللحظات وحزينها .. كنت ستجدينها معك في غالب الأحوال .. في خاطرة وسيمة، أو في لحظة ضيق جانبتها الوسامة فصارت أثقل من أن تحملينها وحدك .. كنت ستجدينها بجانبك لأن عيونها كانت تمتلك القدرة علي قراءة ما يعتري الدواخل من مشاعر ومن خلجات ... ساورتني تلك المواسم، فوصل حنيني وانفعالي بها لحد الاستحضار .. والتمثل .. والتمني .. والدعوات. هي الآن أبعد من أن تتقبل الهدايا لكن دعاشها كان هو الأكثر تميزاً علي كافة الروائح والعطور.

أغسطس
هو الخريف إذن .. يعيدنا لأنفسنا كلما أوغلنا في الابتعاد، وكلما أسرفنا في التنكر لما كنا عليه في سالفات الأعوام، أو خالط آمل الخطي بعض قنوع .. يعيدنا الخريف لأنفسنا في ما يشبه السحر، ويعيدني أنا لما شهدنا معاً من تلك الفصول رطبة الملمس والوجدان، كانت الفصول تغير كل شئ في تلك السنوات وتتغير هي كلما لوح العام بالوداع، وأزف ما اتفق أن كان يليه من أعوام كان كل شئ يتغير إلا ما كنت أحمله لك بداخلي من أمنيات، لكن ذلك لم يعن شيئاً لكونك مشغولة بما تحمل صغار الأيام من تفاصيل ... هل تذكرين ذلك اليوم حينما حال دون لقاءنا المطر؟ قلت ضاحكة أن ... خلاص معناتا بكرة... وكنت أنا راغباً في لقاك .. كنت أريد أن أراك، وأن أسمعك، وأن أتأملك، وأقول بعد نصف ساعة من لقاءنا كعادتي ... مشتاقين والله ... كنت تضحكين حينها مرددة أغنيتي الأثيرة ... والجميلة تفوتنا هسة ... ونبقي مشتاقين برضنا ... كنت أنوي كل ذلك، وأنوي أن أتأملك حين تأتين من البعيد. هل تعرفين بأي طفولة كنت أنفعل برؤيتك تأتين من البعيد؟ وبأي فرح؟ وبأي حنين؟ لا يهم فأنت لم تلاحظي علي كل حال، عرفت ذلك من خطاك ذات ليلة كانت خطواتك المتجهة نحوي هي ذات الخطوات المبتعدة عني حين يكون أوان المغادرة، عرفت ذلك في ذلك اليوم الذي حال فيه بيننا المطر، وكنت في ذلك اليوم ناقماً علي سعادتهم الغريبة بكل ما ذرفت سماواتهم من دموع .. قلت لك عبر الهاتف بأنك ... إنشودة المطر ... التي عناها السياب حين كتب في عيون حبيبته ما كتب غيماً وسحاب؟ هل تعرفين عن أي خريف أتحدث؟ عن خريفي وخريفك ... عن تلك الأمطار التي كانت تواتي في يسر وفي غير ما عنت، وفي بالغ السهولة والتيسير .. كان المطر رفيقاً يسمح بالتحرك تحته في غير ما ضيق ولا مخافة ابتلال، هو بمثابة عودة الإنسان للطبيعة امتنانا بلا جحود، ووصالاً لا تقطعه الحجب ولو كانت بمدعاة اتقاء البلل، أتحدث عن ما شهدناه معاً من موحش الأيام وأليفها، وأتحدث عن حب لا أعرف إلي أين جرفه ذلك الموج الرهيب .. موج السنوات .. وأتحدث عن مطر وصالك حين يضن ويختبئ خلف الغيوم، قلت لك مرة بأنني أوشك أن أدعو علي الغيوم باللعنات كلما حجبت عني نجمتي المفضلة، والتي سميتها باسمك، وصارت رسولي إليك حين ينتصف الليل وأبدأ باستحضارك في لحظات ما قبل النوم .. أوشك علي أن أدعو علي الغيوم باللعنات، ولا ينقذها من نواياي كل ليلة سوي جمالها، قلت لك أن المسألة كالآتي ... الغيوم جميلة بشرط أن لا تحرمنا رؤية من نحب، أن لا تحجب عنا نورهم حين نتطلع إليهم في وله، وحين نتمناهم في أواخر الليل. هل تذكرين ذلك العاشق الذي غضب علي حبيبته حين طالع صورة طبية لقلبها، وعاب عليها أنه لم يجد اسمه مكتوباً فيه، قالت أنه ظل غاضباً ليومين وبدا عليها كامل الرضي من ذلك الغضب اللذيذ، قلت أن ذلك العاشق كان غريب الأطوار، وقلت لك بل هو الحب الذي يبتدع لنفسه أشكالاً فريدة للتعبير، وبأنني كنت سأشعر بالغضب أيضاً لو أتيح لي أن أري قلبك خالياً من إسمي، أو من صورتي، أو الاثنان معاً .. قلت أنت في استغراب .. كلكم غريبي أطوار .. أتذكر تلك الفصول، وأتذكر ذلك الخريف حينما تلفت حولي ذات يوم فلم أجدك.. كنت قد ابتعدت قبل أن تبتعدي فعلياً بزمن، وكنت مترددة فقط بشأن التوقيت لكن الخريف لا زال يعيدني إليك، ولما كنت أراه في عينيك .. أراه وحدي، وأضن علي الآخرين بأن يلحظونه أو يرون ما أري فيه من جمال، هو شيئا يخصني أو هكذا كنت أراه في ذلك الحين لكنه آل إلي إمكانية أن يؤول لأي شخص سواي.. وفي ذلك العام كان كل ما يباعد بيننا هو المطر لكنه فقط ما يمكن أن يجمعنا في خواطر شهور المنتصف لكل عام

ليليان..
لك غيوماً تترفق .. تمنح الظلال عن طيب خاطر، وتقي شر الهجير ولك أمطار أليفة، ومواسم صديقة، تمضي لتعود كل عام .. ودون أن تخلف الم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق