الخميس، 26 أغسطس 2010

سنوات ما قبل الكتابة

لؤي قور
عامان على الرحيل
عليها اللعنة!! تلك اللحظات الطويلة التي سبقت ليلة رحيلك في ذلك العام، عليها اللعنة وكل الأوزار.. عالقة بالذاكرة تلك اللحظات القميئة التي عجزنا فيها أن نرد إليك بعضاً مما كنت تصنع بداخلنا من حياة، لكنني لم أعد أتذكرك بذلك الوجع الذي يعقب الفاجعة، بل أتذكرك على تلك الهيئة الأليفة التي كنت أراك فيها، والتي اعتادتها عيناي، يقولون أننا لا نحسن الكتابة عن الفاجعة ما لم تمسح على عميق جراحها الأيام، ويخفف من غلوائها مرور الأشهر والسنوات... تصير حينها قابلة للتأمل، وممكنة الإجترار الإسترجاع على مستوى التفاصيل الصغيرة التي يغيبها الحزن في كل حين، ويبرزها تقادم العهود على ما قر بدواخلنا من ذهول يختزل الذكريات في ذلك الرحيل المر والعجول.. حينها فقط نستطيع الكتابة، والتذكر، والحديث.. وأن نرى ما يقبع خلف سحابات حزننا من نجوم. قلت لك في ذكرى رحيلك الأولى أننا لعنا عجزنا عن أن نقدم لك شيئاً سوى حفرة، وأن ندفن ابتسامتك، وعيونك الصغيرة، ويدك النحيلة التي تتجه لأنفك كثيراً أثناء الحديث.. وقلت لك أنه آلمني أن ترحل في صمت، وبلا ضجيج.. هوى نيزك!! فما الذي يدعو سكان الأرض لكل هذا الهدوء؟ وما الذي يجعلهم يتعاملون مع حدث رحيلك بهذا البرود الثقيل؟ يتمتمون بكلمات خافتة، أسمع أولها وتغيب عني في تلك الأمسية كل أواخر الكلمات. وقلت لك أن من تحبها قد أوشكت على أن تلحق بك – من فرط حزنها - في بعيدك الموحش.. والذي تغطيه الغيوم، لكني في ذكرى رحيلك الثانية أتذكرك بدرجة أكبر من الوضوح.. كنت أنت في مراهقتك المشاكسة، وكنت أنا في طفولتي التي اعتمدت المراقبة والانصات سبيلاً للحياة، أتذكرك وأنا مستلقٍ في المنزل، أستمع لخطاب كنت تلقيه بمناسبة الذكرى الأولى لافتتاح ذلك المعهد المختلط في الضاحية، والذي ووجه بآلاف الإنتقادات.. قالوا أنه نافذة صريحة للرذيلة مغلفة بدعوى التعليم، وقالوا بأن محاربة هذا المعهد هو واجب ديني وضرب من ضروب الإيمان وتغيير المنكر باليد، ودعوا لمقاطعته في الضاحية. ولما كان القائمون على أمر ذلك المعهد على درجة ما من الإصرار فقد مضوا فيما هم فيه، وأعلنوا عن افتتاح المعهد.. واستعداده لقبول الطلاب من الجنسين. كان الأمر أكثر سهولة حينما يتعلق الأمر بالطلاب ويصل درجة الاستحالة حينما يتعلق بالطالبات في الضاحية، لكنه كان أكثر سهولة فيما جاور الضاحية من أماكن، إذ توافد الطلاب من الجنسين على المعهد، وسرعان ما ابتدأت الدراسة بعد أن تحول الأمر من مجرد حلم عند القائمين عليه، ومثاراً للجدل بين سكان الضاحية إلي واقع يحظى فيه الطلاب بالدراسة.. كانت الدراسة مسائية تنتهي في السادسة، وتعقبها فترة مذاكرة إلزامية حتى التاسعة، وهو ما أثار حفيظتهم من جديد. وهكذا فقد تعرض المعهد لهجمات شرسة في بدايات إنشائه، كانوا يحطمون الكراسي ولمبات الإضاءة، وكثيراً ما حصبوا المبنى بالحجارة في ساعات المذاكرة، لكن القائمين عليه وجدوا طريقة للتعامل مع كل هذه الصعاب. صار من أوجب الواجبات بعد إنتهاء الدراسة أن يتم حفظ الأثاثات ولمبات الإضاءة في مكان مغلق، وأن يكون الطلاب على أهبة الاستعداد للإمساك بمن يلقي الحجارة على مبنى المعهد، أو يقطع التيار الكهربي عنه حين يكون الظلام.. وعلى كل حال فقد شق المعهد طريقه بين هذا وذاك، وكان لجمعيته الأدبية شأن وصيت جعل حتى المعارضين من سكان الضاحية يأتون للإستمتاع بها بين حين وآخر.. يأتون على استحياء بعد أن خفتت أصواتهم بفعل النتيجة الجيدة التي أحرزها طلاب المعهد قياساً بما عداهم من طلاب... أتذكرك وأنت تلقي خطاباً في تلك الأمسية
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي
ولابد للقيد أن ينكسر
ومن لا يحب صعود الجبال
يعيش أبد الدهر بين الحفر
كنت تلوذ بالشابي في خطابك، وكنت أنا مستلقياً في المنزل.. أكتفي بسماع صوتك دون أن أراك... كنت نجماً في ذلك الحين... وفي كل حين. لكن ما لم تلحظه في تلك الأمسية هو الفقرة التي سبقت خطابك في الاحتفال، كان صوتاً لأنثى تغني، وكان صوتها ندياً أشعل وجدان طفولتي بمجهول المشاعر، وصنع بداخلي شوقاً خاصاً لمعرفة من تكون.. كنت أود أن أراها عن قرب، وأن أستعين بوجهها على إكمال متعتي الغريبة بما كنت أسمع منها من كلمات، وفيما بعد عرفت من تكون.. عرفت بأنها تلك الأنثى التي أحفظ ملامحها عن ظهر يقين، تسكن الضاحية غير بعيد من مكان سكنانا، وأراها مرتين في كل يوم تقريباً في طريقها من وإلي المعهد.. كانت تغني في تلك الأمسية لحناً للكاشف أظن أنه رحلة في طيارة....
يا حبيبي قلبي حاب
رحلة بين طيات السحاب
وحدنا
أنت وأنا
لا أدري لماذا خيل إليّ بأنك لم تلقِ لغنائها بالاً.. لعلي قدرت أنك كنت تراجع خطابك، وتستعد لإلقائه.. وكنت تنتظر أن تنهي أغنيتها لتقرأه، لكنها كانت أبرز ما علق بطفولتي في تلك الأمسية حين أتذكرك في استرخاء.
وخاطر آخر كان يقودني إلي التفكير في أنها ربما كانت تتوجه إليك بكلمات أغنيتها تلك.. لا أعرف السبب، ربما لأنني رأيتك بصحبتها غير مرة في مشوار العودة من المعهد مساءاً. وربما خيّل إليّ إنها كانت تنظر إليك بطريقة توحي بالكثير، ويمكن من خلالها التنبوء نسيباً بما كانت تحمله لك مما يمكن أن يحمله الوجدان، وأقدر أنك كنت في غفلة عن كل ذلك، ولم تكن تلقي بالاً سوى لما كنت منكب عليه من دروس، كان شغفك بالدراسة غريباً.. وكنت أنا متعجباً من قدرتك المخيفة على التفوق في كل عام، ربما لأنك كنت تلقي بذلك على عبء المقارنة.. لكنني في تلك الأمسية كنت موقناً من أنني أستطيع أن أواصل الاستماع إليها إلي الأبد....
طوينا الجو طي الحجاب
وبقو لينا الأنجم قراب
من هنا
جن جمبنا
أنت وأنا
كانت تغني كأنها كتبت الكلمات وأنشأت اللحن، وهاهي بعد سنوات من التحاقك بالجيش الشعبي، وبعد أن ذاع الخبر في الضاحية، وقرر الكثيرون أنك قد وقفت على الجانب الخطأ من المعركة، وأنك انضممت طوعاً لمن يخالفونك العرق والدين.. هاهي تقرر بأنها لا تعرف عن أمور السياسة الكثير، لكنها تعرف أنك لم ولن تكون يوماً على الجانب الخطأ من المعركة، وأنك الأقرب للصواب حينما يتعلق الأمر بالخيارات!! كان إيمانها بك مطلقا،ً وكان ما تحمله لك من مشاعر يتخذ صفة الصلابة حينما يتعلق الأمر بالخواص الفيزيائية للوجدان. كانت معك في غيابك الأول حينما كانت البلاد في أشد حالات الاستقطاب، ولم يكن ثمة بديل لإحقاق الحق سوى الكفاح المسلح، ولا طريقاً للتغيير سوى بذل الدماء.. كانت معك في ذلك الحين، وكانت معك عقب عودتك الظافرة بعد سنوات.. لكنك لم تلحظ من كل ذلك شيئا،ً حتى حينما اخترت غيرها لتشاركك الحياة والأمنيات، كانت تحتفظ لك بداخلها ما يكفي حاجتك.. وما يفيض. لكنه قدرها على كل حال، وهو أبرز ما تذكرته في ذكرى رحيلك الثانية بعد أن مسحت السنوات بعضاً ما غطى على جميل تذكرك من ضبابات الهموم، وهأنذا أتخيلكما معاً.. ماذا لو ابتسمت لها في تلك الأمسية البعيدة من أمسيات أغسطس؟ ماذا لو لاحظتها؟ أقول بأنك كنت ستمتلئ حينها بكل ما لم يحدث بينكما من تواصل، وبأنها ستفيض بداخلك لو كنت معها حين غنت
سبحنا في العلا كالشهاب
وبنشوف العالم رهاب
تحتنا ويهتف لنا
يا بختنا
أنت وأنا
لك في بعيدك الموحش كل ما كانت تدخره لك تلك الجميلة من أغاني.. ومن سلوان، ولك في ذكرى رحيلك الثانية كل ما حملت سنوات انتظارها لك من ذكريات
لؤي قور

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق