الأربعاء، 11 أغسطس 2010

في ورشة جمع تراث اللغات القوميّة


(جمع تراث اللغات القومية)، كان هذا عنوان ما تناولته الورشة التي أقامها مجلس تطوير وترقية اللغات القومية، بقاعة الشارقة في يوليو الماضي، وقدمت في الورشة أوراق عمل عن اللغات، وأكّدت الورشة أنّ الصراع الثقافي اللغوي الذي يفضي إلى تهديد اللغات يعني بالضرورة تهديداً للجنس البشري؛ خاصة أن هنالك لغات انقرضت وأخري في طريقها للانقراض، وعليه سنفرد في الملفات القادمة بقية الأوراق التي قدمت.

 

أهم ملامح الخريطة اللغوية السودانية
بروفيسور/ الأمين أبو منقة محمد


مقدمة حول مفهومي اللغة واللهجة:



أي حديث في موضوع (اللغة) في السودان لا يوصل الرسالة المستهدفة منه طالما الأجهزة الإعلامية ما زالت تردد عبارة (اللغة العربية واللهجات السودانية الأخرى)، هذا بالرغم من أننا ظللنا منذ حوالي عشرين عاماً نبذل الجهد في شرح الفرق بين (اللغة واللهجة). بالطبع، هذا الفرق مفهوم لدى المتخصصين والقليل من المثقفين، ولكن بما أن ورشة العمل التي نقيمها الآن تضم أيضاً مشاركين من غير المتخصصين في مجال اللغات، فإننا نرى من الضرورة تكرار ما ذكرناه آنفاً وفي مرات عديدة حول هذا الموضوع.

نقول بأسلوب مبسط: إذا تحدث شخصان ولم يفهم أحدهما كلام الآخر، فإنهما يتحدثان لغتين مختلفتين، هذا بغض النظر عما إذا كانت أي من اللغتين مكتوبة أو غير مكتوبة، واسعة الانتشار أو محدودة النطاق، موصوفة القواعد أو غير ذلك، وهذا يتفق مع تعريف ابن جني للغة بأنها "أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم" فوفقاً لهذا التعريف، إن النوبية والبجاوية والدينكا والنوير... الخ، كلها لغات.
أما إذا تحدث شخصان نمطيين من الكلام متشابهين مع وجود بعض الاختلافات النطقية واللفظية، ومع ذلك فهم كل منهما كلام الآخر، فإنهما يتحدثان لهجتين للغة واحدة، مثال لذلك لهجة دينكا بور ودينكا ريك (من لغة الدينكا)، ولهجة الهدندوة ولهجة البشاريين (من اللغة البجاوية)، ولهجة الحمر ولهجة الشايقية (من اللغة العربية)، فاللهجة إذاً نمط من أنماط اللغة، أي هيئة من هيئات هذه اللغة، تنفرد بها مجموعة محددة داخل المجتمع اللغوي العام للغة المعنية، لذلك يمكن القول أن اللغة نفسها ما هي إلا مجموعة اللهجات المكونة لها، وهذا عين ما ذهب إليه إبراهيم أنيس بقوله:
"اللهجة في الاصطلاح هي مجموعة من الصفات اللغوية تنتمي إلى بيئة خاصة، ويشترك في هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة، وبيئة اللهجة هي جزء من بيئة أوسع وأشمل تضم عدة لهجات، لكل لهجة منها خصائصها، ولكنها تشترك جميعاً في مجموعة من الظواهر اللغوية التي تيسر اتصال أفرادها في بيئة بعضهم البعض، وتلك البيئة التي تتألف من عدة لهجات هي التي اصطلح على تسميتها باللغة".

هذا فيما يتصل بالإشكال الذي يخص مفهومي "اللغة" و"اللهجة"، غير ان لهذا الإشكال وجه آخر كان غائباً عني، فكنت حتى قبل أسبوعين اعتقد بالخطأ المطلق لعبارة "اللغة العربية واللهجات السودانية الأخرى"، ولكن اتضح لي مؤخرا أن هذه العبارة خطأ في شق وصواب في شق آخر، أما الشق الخطأ فهو اعتقاد العامة بان اللغة لابد أن تكون مكتوبة، ولابد أن تكون لها قواعد، ولابد أن تكون واسعة الانتشار، وفيما عدا ذلك فإنها لجهة، فبما أن أنماطاً تواصلية كالإنقسنا والمساليت والفور مثلاً، لا تتمتع بهذه الصفات- في اعتقادهم- فإنها اللهجات كما أن من العامة من يصعب عليه وضع اللغات المذكورة أعلاه في تساوٍ مع اللغة العربية، صحيح أن اللغة العربية تمتاز عليها في كثير من الخصائص اللغوية الاجتماعية، ومع ذلك تظل لغات وفقاً للتعريف المتفق عليه عند علماء اللغة.

أما الشبق الصواب في عبارة "اللغة العربية واللهجات السودانية الأخرى" فيتعلق بقوائم لغات السودان التي تم رصدها عبر السنين، وكل قائمة تضم أكثر من مائة "لغة"، وعند مراجعة هذه القوائم سنجد أن البعض مما ورد في مداخل مستقلة باعتبارها لغات، ما هي لهجات للغات بعينها واردة في نفس القائمة، ولكن بمسميات مختلفة، وسوف نتناول هذا الأمر بمزيد من التوضيح في الجزء التالي من هذه الورقة، وفيما يلي نذكر أهم ملامح الخريطة اللغوية السودانية.

كثرة اللغات:

تتميز الخريطة اللغوية بكثرة لغاتها، ولا اعتقد أن هناك دولة إفريقية تفوق السودان في هذا المجال سوى نيجيريا، ولكن السؤال: كم عددها الآن؟ نعترف نحن المنشغلين بأمر اللغات منذ أكثر من عشرين عاماً- بعجزنا عن تحديد عدد لغات السودان حتى الآن، لقد أورد الإحصاء السكاني الأول (1956) 113 لغة، وفي نفس العام أورد تكر وبريان 106 لغة، وفي عام (1984) تحدث يوسف الخليفة أبوبكر وسيد حامد حريز عن 177 لغة ولهجة، ومؤخراً ضمت قائمة إثنولوج 132 لغة، من الصعوبة اعتماد أي من الأرقام أعلاه، للأسباب التالية:

لقد مر أكثر من خمسين عاماً على الأرقام الواردة عام 1956، وخلال هذه الفترة حدثت كثير من المتغيرات، أهمها اندثار عدد من تلك اللغات، مثل النيالقولقلي، والبرتي، والبرقد، والقولي، والميما في السودان، وربما لغات أخرى في جنوب السودان لا نعرفها.

بالنسبة للرقم الذي أورده يوسف الخليفة أبوبكر وسيد حامد حريز للغات واللهجات معاً، حقيقة لا ندري المعيار الذي استخدماه لتحديد اللغة واللهجة.

إذا افترضنا أن كل لغة سودانية تضم لهجتين على أقل تقدير، وقد تصل إلى عشر أو فوق ذلك (مثل اللغة العربية)، فبهذا الحساب نتوقع أن تكون اللغات واللهجات في السودان أكثر من ذلك العدد بكثير.

أما قائمة إثنولوج Ethnologue، فعدم دقتها واضح للعيان، حيث وردت اللغة العربية في 3 مداخل، والدينكا في 5 مداخل، والبندا في 6 مداخل.

إن أهم الأسباب اللغوية التي حالت دون الوصول إلى تحديد عدد لغات السودان، عدم وضوح الخط الفاصل بين "اللغة" و"اللهجة"- أي، أين تنتهي "اللهجة" ومن أين تبدأ "اللغة". هذا إضافة إلى عدم اهتمام الدولة بموضوع اللغات بصورة عامة، وقلة المتخصصين فيه. فليكن من أولويات مجلس تطوير وترقية اللغات القومية، وضع معيار لغوي صرف مقتصر على درجة التفاهم المتبادل Mutual intelligibility يتم بموجبه تحديد عدد لغات السودان، مع استبعاد المعايير اللغوية الاجتماعية التي يعتمدها بعض علماء اللغة الاجتماعي، مثل رأي المتحدثين بالنمط المعني (أي، إن كانوا يحسون بان كلامهم لغة مستقلة أم إحدى لهجات لغة أخرى).

تنوع اللغات:

كذلك من أهم ملامح الخريطة اللغوية السودانية، تنوع لغاتها، حيث أنها تتوزع في ثلاث من بين أربع عائلات لغوية صنفت فيها جميع اللغات الإفريقية (تصنيف جوزيف غرينبيرج 1966)، وهي: الأفروآسيوية، والنيجر كردفانية، والنيلية الصحراوية- وتستثنى العائلة الرابعة، وهي الكويسانية. ويصبح هذا التنوع أوضح إذا علمنا أن 16 من بين 18 فرعاً لهذه العائلات الثلاث ممثلة في الخريطة اللغوية السودانية. وبالنظر إلى وضع كل عائلة يمكن تدوين الملاحظات التالية.

سيادة عائلة اللغات النيلية الصحراوية من حيث عدد اللغات وتنوعها، حيث نجد أن جميع أفرعها الستة ممثلة على الخريطة إما كلغات أصلية أو لغات مهاجرة. وتغطي هذه العائلة مساحات واسعة من السودان، وتضم كل مجموعة اللغات الدارفورية، والنوبية والنيلية ولغات جنوب النيل الأزرق. وبها كثير من اللغات المهددة بالانقراض.


سيادة عائلة اللغات الأفروآسيوية من حيث عدد المتحدثين، وذلك لأنها العائلة التي تنتمي إليها اللغة العربية، والتي يتحدث بها في الوقت الراهن ما لا يقل عن 60% من سكان السودان كلغة أولى، ويبلغ مجمل المتحدثين بها كلغة أولى أو ثانية أو ثالثة حوالي 80% من السكان، كما تضم هذه العائلة أيضاً لغة الهوسا الواردة في قائمة اللغات الأربع عشرة الكبرى في السودان (من حيث عدد المتحدثين)، وكذلك اللغة البجاوية ذات الوزن الديمغرافي المعتبر في شرق السودان.


باستثناء اللغة الفولانية، تنحصر اللغة النيجر كردفانية في جبال النوبة (الجبال الجنوبية) والأطراف الغربية من الإقليم الجنوبي (كموطن أصل). تجدر الإشارة إلى أن الفصيلة التي تنتمي إليها لغات هذه العائلة الكائنة في جبال النوبة، لا توجد في أي مكان آخر في إفريقيا سوى تلك المنطقة.


إن من محاسن التنوع اللغوي الذي يتمتع به السودان، إنه يمثل مصدراً قيماً لثراء المادة البحثية اللغوية وعنصر جذب للباحثين المتخصصين من خارج البلاد، حيث يعطي بعداً بحثياً فيما يتصل بتداخل الأنواع المختلفة من اللغات مع بعضها البعض، ويشكل تحدياً لعلماء تصنيف اللغات.










عدم التكافؤ في التوزيع الجغرافي:


ليس من المتوقع أن نجد توزيعاً متكافئاً للغات في الخريطة اللغوية لأية دولة من الدول، غير أن الوضع على الخريطة اللغوية السودانية في هذا الصدد ملفت للنظر، فيستأثر النصف الجنوبي من الخريطة بحوالي 70% من مجمل لغات السودان، وتعتبر هذه المنطقة أكثر مناطق إفريقيا، وربما العالم، كثافة وتنوعاً لغويين، بينما لا نجد في أقصى شمال السودان أكثر من ثلاث لغات، وفي الشرق لغتين فقط (البجاوية والتقري/ بني عامر).، بالمقابل، يتصف النصف الشمالي للخريطة، وبالأخص وسط السودان، بالكثافة اللهجية، نسبة لكثرة اللهجات العربية فيه.










التغير المتسارع:


لقد اعترى الخريطة اللغوية السودانية خلال الثلاثين عاماً الماضية (وما زال يعتريها) تغير كبير من ناحيتين: التوزيع الجغرافي للغات، وأنماط الاستخدام اللغوي.






من ناحية التوزيع الجغرافي، فقد أصبح وسط السودان في يومنا هذا موطناً جديداً لجميع لغات السودان تقريباً، وذلك بسبب الهجرات من الريف إلى المدن، والنزوح الناتج عن الحروب الأهلية في الجنوب وجبال النوبة، إضافة إلى الجفاف والمجاعات، ففي عام 1988م رصدنا أكثر من خمسين لغة في حي التكامل غرب (الحاج يوسف- الخرطوم بحري)، وحينها كان سكناً عشوائياً (أنظر كاثرين ميلر والأمين أبو منقة 1992). وفي العام الماضي رصدت سوسن خالد (طالبة ماجسير بقسم اللغات السودانية والإفريقية، معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية) قرابة ذلك العدد من اللغات في نفس هذا الحي بعد أن تم تخطيطه واستقرار ساكنيه بصفة مستديمة، وهذا الواقع قد ينطبق على كل الأحياء المتشابهة لحي التكامل من حيث تاريخ وظروف الإنشاء والتطور (كرتون كسلا سابقاً، حلة شوك، دار السلام في مدن الخرطوم الثلاث، الخ).






أما من ناحية أنماط الاستخدام اللغوي، فقد أثبتت كل المسوحات اللغوية والبحوث ذات الصلة بها، أن هناك تحولاً مستارعاً من استخدام اللغات المحلية إلى استخدام اللغة العربية، وذلك يرجع إلى السباب الآتية:






الوزن الديمغرافي والثقافي والديني للغة العربية.


دعم الدولة للغة العربية دون اللغات المحلية.


عدم تمتع اللغات المحلية بمقومات الانتشار، أو حتى البقاء.


هجرة اللغات المحلية إلى مناطق سيادة اللغة العربية.


وأهم النتائج المترتبة على هذا الوضع، زيادة درجة تهديد اللغات المحلية بالانقراض، لذلك ينبغي على مجلس تطوير وترقية اللغات القومية، من خلال هذه الورشة ودعم المراكز التي تقوم بكتابة وتعليم اللغات المحلية في تجمعات النازحين في ولاية الخرطوم (مثل مركز آدم كوكو) وعواصم الولايات ( مركز مالك عقار، مركز دراسات اللغة البجاوية بجامعة البحر الأحمر).






كثرة اللغات الحدودية


هذا بالطبع ناتج عن كثرة البلاد المجاورة للسودان، حيث يشترك السودان في لغتين على الأقل من كل دولة مجاورة، وقد اشتملت قائمة كمال جاه الله (2009) حوالي 50 لغة حدودية، وتأتي تشاد في مقدمة البلاد المجاورة من حيث كثرة اللغات المشتركة، وتليها اثيوبيا، وتتوزع اللغات الحدودية في كل العائلات اللغوية الثلاث المذكرة آنفاً، ويكثر متحدثو البعض من هذه اللغات في البلد المجاور بينما يكثر متحدثو بعضها الآخر في السودان، وهذا الأمر ينطوي على إشكالية دستورية سنتطرق إليها عند حديثنا عن اللغات المهاجرة أدناه.






وجود لغات مهاجرة


ونعني باللغات المهاجرة، تلك التي يشترك فيها السودان مع بلاد أخرى في إفريقيا غير حدودية، وتشمل على وجه الخصوص لغات كبرى الأمم الإسلامية في غرب إفريقيا: الفولانية والهوسا والكانورية، لقد استقر متحدثو هذه اللغات منذ قرون في السودان نتيجة جملة من العوامل لسنا في حاجة إلى الإسهاب في تفاصيلها (الحج، الهجران الدينية، المهدية.. الخ)، وأصبحوا جزءاً من التركيبة السكانية السودانية، وتتمتع كل من الفولانية والهوسا بوزن ديمغرافي في السودان معتبر، حيث وردتا في قائمة اللغات الأربع عشر الكبرى في السودان.






من ناحية أخرى، ترد اللغة الفولانية في المراجع ضمن اللغات السنغالية واللغات النيجيرية، دعونا نربط وضع اللغات المهاجرة هذه مع مجموعة اللغات الحدودية التي يكثر المتحدثون بها في البلاد المجاورة لنطرح السؤال التالي: أين موقع هذه اللغات من البند الأول من قانون اللغات المجاز في الدستور الانتقالي الحالي، والذي يقول: "جميع اللغات الأصلية السودانية (Indigenous languages) لغات قوية يجب احترامها وتطويرها وترقيتها"؟ هل تدخل هذه اللغات ضمن اللغات الأصلية؟ هذا علماً بان أهلها سودانيون بالقانون لهم جميع حقوق المواطنة وعليهم جميع واجباتها.






لم يتطرق مجلس تطوير وترقية اللغات القومية إلى هذا الموضوع بعد، ولكن حتماً سيأتي يوم يطفح فيه فوق السطح.






خاتمة:






يتضح مما تقدم أن الخريطة اللغوية السودانية ما زالت تتمتع بقدر معتبر من التعدد والتباين اللغويين، وتعتبر اللغات الحدودية والمهاجرة من روافد الثراء اللغوي في السودان، غير أن صورة الوضع اللغوي التي تم توصيفها في هذه الورقة مهددة في بقائها واستمراريتها، وذلك لعدة أسباب، لعل أهمها هجرات اللغات الصغيرة إلى مناطق سيطرة اللغة العربية وما يترتب على ذلك من التخلي عنها لصالح اللغة العربية، هذا إضافة إلى التمدد الطبيعي للغة العربية باعتبارها لغة التواصل على المستوى القومي، ويتوقع أن يتواصل هذا التمدد بخطى أكثر تسارعاً خلال العقود القليلة القادمة إثر التطور العمراني الحضري، وتحسن شبكة المواصلات ووسائل الاتصال والإعلام، والتوسع في التعليم، بما يجعل المجال أكثر سعة للحراك السكاني والتمازج الاجتماعي، ومن ثم التأثير والتأثر بما أن القاعدة في مثل هذه الحالات هي اندحار اللغات الضعيفة أمام اللغات الأقوى، فإن كل ما ذكر أعلاه سيكون على حساب بقاء واستمرارية اللغات القومية المحلية، لذلك تصبح الحاجة أكثر إلحاحاً في الوقت الراهن لبذل مزيد من الجهد حيال جمع وتدوين تراث هذه اللغات، إلى جانب العمل على المحافظة على هذه اللغات نفسها لأطول مدة، وتوثيق الأكثر تهديداً منها بالانقراض باعتبارها إرثاً إنسانياً ملكاً للجميع.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق