الأربعاء، 25 أغسطس 2010

سنوات ما قبل الكتابة

لؤي قور
ليليان.. مرسى بعد طول ترحال(16)
أغسطس مرة أخرى... تبلغين فيه شهرك السابع، وتصير ضحكتك أجمل وقادرة على أن تعينني على احتمال المزيد... عن ماذا كنت سأحدثك لو كنت تملكين القدرة على الإصغاء؟ لا أعرف.. لكني أعرف ما كنت سأقول لأنثى إلتقيتها في واحدة من ليالي نوفمبر، وكان أغسطس من كل عام هو الموسم الذي أعيد فيه تعريفي لها بصورة مختلفة.. أنفاساً كانت ونبضات قلب في واحد من نهاراته، ووجعاً كانت وخيبة في واحدة من لياليه، لكنها هي على كل حال... وهو أغسطس - آخر شهور المنتصف - حينما يمارس هوايته غير المحببة في اجترار الأوجاع، فماذا كنت سأكتب لها في أغسطس من هذا العام لو كانت الكلمات لا تزال تعرف الطريق إلي جوارها؟ لعلي كنت سأقول:"
أغسطس.. وهأنذا أستحضر موعد التفكير في الهدية التي سأقدمها لك في ذكرى مولدك والذي يوافق الثلث الأخير من سبتمبر من كل عام، أدخل في تلك الحيرة الموسمية متسائلاً عما يناسبه من هدايا، محاولاً تجنب التكرار.. فيا ترى ماذا أهديتك في العام الماضي؟ وفي سابقه؟ وفيما سبقهما من أعوام؟ أتذكر تلك الحقيبة الجلدية الصغيرة، وأتذكر أني أهديتك في واحدة من تلك المناسبات لوحة لا أعرف من رسمها. كانت لوحة لطفلة تصلي.. تجمع كفيها للأمام، وتنظر للسماء في تطلع. لكن القاسم المشترك في كل ما استقر عليه رأيي من هدايا كان هو الكلمات.. كنت كثيراً ما أعول عليها وصلاً ورسول، قلت أنه في البدء كانت الكلمة.. وهي ما سيبقى في نهاية المطاف.. وكنت في تلك الأيام مهووساً بالكتابة إليك.. أكتب لك حين أكون بحضرتك، وأكتب إليك وأنا أنتظرك، وحين أهم بالمغادرة، وفي لحظات غيابك الطويل لم يكن ثمة ما يجمعني بك سوى الكتابة، كنت أستغرب أحياناً في (ماذا ستصنعين بكل هذه الكلمات؟) قلت لي ذات مرة أن الكتابة عنك وإليك كانت واحدةً من أحلام طفولتك، لم أكن أمتلك حينها سوى الكلمات وقلت لك ضاحكاً بأنني لا أمتلك سوى حلمك المزعوم، فكنت أكتب إليك في غزارة آملاً أن أصنع من الكلمات ما ينشئ بيننا ما يشبه الجسور، وأن نلتقي يوماً لأجل كلمة، وأن نكون على استعداد لنفنى من أجلها، وعلى كل حال فقد كان أغسطس عندي هو شهر بحث وتنقيب، وكان سبتمبر هو شهر اللقيا والهدايا والأعياد. قلت لك أن سبتمبر هو شهر مولدك المعلن، لكن نوفمبر هو شهر ميلادك بداخلي أو ميلادنا المشترك وفي سبتمبر أحتفي بك.. بليلة حملت حضورك بعد طول انتظار، وحملت وعداً بلقيانا في واحدة من ليالي نوفمبر الوسيم.
سبتمبر.. كل سنة وانتي طيبة.. هل تعرفين أنني كنت أتحاشى الكتابة عن سبتمبر في سبتمبر من كل عام؟ وأنني كنت أبدأ الكتابة عنه في أغسطس، وأستعين بنوفمبر على تكملتها حين يكون في نوفمبر متسع للكتابة؟ لكنني أقف حين أجتر ذكراك عند شهرين بعينهما في واحدة من تلك السنوات، كان لهما ما يميزهما عما عداهما من شهور، كان سبتمبر في ذلك العام طفلاً يتعلم كلماته الأولى، يكون أجمل ما يكون حين يتعثر في نطق الجمل أو يواجه صعوبة في أحرف بعينها فيزيد ذلك من جمال طفولته ومن تميزها الفريد، وكنت أنا منك على مسافة شوق، وعلى بعد تحسس واكتشاف.. قلت لك حينها بأنك لا تزالين عندي تلك الأنثى التي يشوب نضجها شائبة طفولة، في عينيها تلقائية.. وفي داخلها استقرار نفسي واضح للعيان، وقلت بأنني أستشعر حاجتي لاعادة اكتشافك في كل حين، وعقب كل لقاء، وقلت أنت بأنني أبالغ قليلاً، وأنه ليس ثمة ما يستدعي (كل هذا الإكتشاف) كنت تفكرين في كولومبوس وهو يستشرف أراضٍ جديدة كانت في حكم المجهول، أو رحالة ما يحظى بمشاهدة اليابسة بعد طول إبحار، لكني لم أكن أعني سوى الغوص فيما يمكن أن يكون بداخلك من أماكن، وأن أبحث في الكيفية التي أتمكن بها من ملء ما يمتد بداخلك من مساحات.. وهكذا فقد كان سبتمبر الأول عندي شهراً للتلمس.. أتلمس خطاي باتجاهك، وأفكر في احتمال أن أكون منك على ذلك البعد المتناهي في الصغر.. أسميتها المسافة الصفرية، ولم يكن يدور بخلدي أنني كنت أكتشف نفسي بدلاً عن اكتشافك، وأنك لم تكوني تعلمين من كل ما كان بيننا سوى موعد اللقيا والمغادرة.. كنت أنا مشغولاً بك، وكنت أنت مشغولة بالتفكير في كيفية وصولك لمكان سكناك في هذا الوقت المتأخر من اليوم، قلت لك إعتني بي وأتركي لي مهمة الإعتناء بك فأنا أمين عليك كما تعلمين، وبك أمين على نفسي في كل وقت وحين.. كنت أراهن فيما كان بيننا على المشاركة، وكنت لا تعرفين سوى الفردية سبيلاً للحياة، قلت أنك تحتفظين بمسافة بينك وبين الآخرين تتراوح صغراً وكبراً لكنها تبقى عصية على التلاشي في كل الظروف والأحوال، وقلت أن الحب عندي لا يعني سوى كامل الإندماج.. أن نصير معاً، وأن تتخلى عن بعض عاداتك من أجلي وتجربي معي بعض ما كنت تضعينه في قائمة المستحيلات.. قلت لنقل أننا معاً في وسط عاصفة ثلجية لا مجال فيها لدفء، ولا ملاذ فيها لأحد غيرالآخر، وأننا عرفنا ذلك بعد تجربة القاسية قضت على كل ما بيننا من حواجز، وأننا التحمنا معاً فشعرنا بالدفء والإلفة والأمان، وأن ذلك هو ما أعني إن استطعت التعبير.. أعجبتك الفكرة في ذلك الحين، لكن يبدو أنك فكرت فيها كقصة خيالية، أو كبلاغة تعبير، لكنني كنت في خضم تلك العاصفة وأنا أحدثك، أتمسك بك بكل ما يمكن للتمسك أن يحتمل من معانٍ.. ومن دلالات. فيا ترى ماذا صنعت بسبتمبر منذ ذلك الحين؟ هل هناك من يحمل لك وردة كلما حلّ أغسطس.. يحرص على أن تحافظ على نفسها ورائحتها وطبيعة ألوانها وارتوائها ليقدمها لك في سبتمبر؟ أم تمر عليك لياليه باردة مظلمة كما وجدتها أنا في سنوات ما بعد الغياب حينما سادت الوحشة، وهبت عاصفتي الثلجية من جديد لتقتلع في تلك المرة كل ما كنت أحتفظ لذكراك به من ورود، وتتركني على ذلك الحال الذي لا أتمكن فيه من التمسك سوى بما قر بداخلي من معرفة عملية ومريرة بما يمكن أن تصنع العواصف، معرفة يغذيها التعود على ما تحمله من أذى، ومن تنازع، ومن متغيرات.. صارت العواصف على طبيعتها المجردة والتي لا تعرف المزاح.. هل تذكرين حينما قلت لك مرة أن أقسى التجارب هي التي يتمسك كل كائن فيها بطبيعته؟ ويرفض التماهي مع ماحوله من كائنات؟ يرفض حينها الإنحياز سوى لنفسه هي ليست مثل تلك التجارب الرفيقة التي تتنازل فيها الكائنات عن طبيعتها، ويستلف من كل كائن فيها قليلاً من طباع الآخر، قلت لك أن ذلك هو ما أسميه بالتفاعل، وهو الضمانة الوحيدة لتبلغ المشاركة غايتها ولو بعد حين، وكنت تومئين برأسك حينها دلالة على الموافقة، هل قلت لك أنك كنت ترضخين للمنطق في كل حين؟ وأن ذلك كان يعجبني أحياناً، وكان يؤذيني في غالب الأحيان؟ قلت لك ألف مرة أن للمنطق سطوة، وأنه لا مناص من الخضوع إليه حينما يتعلق الأمر بالمرئي والمحسوس.. لكن لا بد لنا من مجافاته حينما يتعلق الأمر بتلك الكائنات اللا مرئية والتي تسكن الوجدان، يؤذيها المنطق ويضعها في خانة العادية، وربما اجتهدت بحيث تجد لنفسها موقعاً منه لكنها غالباً ما تحتل الذيلية في قائمة المنطقيات متنازلة بذلك عن أعلى المواقع في سلم الإنسانية والوجدان، قلت لك أنه ما من منطق يجعلني معك دون سواك، وأنه ما من سبب يدعو أحدهم للتعلق بعيون بعينها، وقلت لك أن هناك دائماً الأجمل إذا كان الأمر يتعلق بالجمال، وأن هناك الأكثر وسامة، وأن هناك ملايين المفردات على وزن أفعل والتي تحمل معنى التفضيل.. لكن ما يغيبنا معاً يضرب بالمنطق عرض الحائط وهو الشئ الوحيد الذي يمكن أن يقال عنه أنه بلا سبب وقلت أنت:"طبعاً" وكنت حينها تنظرين إلي الساعة في هاتفك المحمول.. كان تنصيبك للمنطق حكماً علينا يؤذيني، ويعيدني لنفسي كلما أوغلت في النفاذ بداخلك.. كنت أريد أن أأخذك إلي تلك البحيرة المسحورة في جزيرتنا الافتراضية، وأن تطالعي معي أسراب الأوز التي تنزع عن نفسها الريش والمعيقات، يتحولن إلي فتيات غاية في الجمال قبل أن ينزلن إلي الماء، وكنت أريد أن أعرف رأيك في لون الجدران داخل قصر الجنية التي تسكن تحت الماء.. لكنك كنت كعادتك مهمومة بما يمكن أن يلي ذلك من حديث.
كان ذلك في سبتمبر الأول، لكنني كنت أأمل أن يكون ثمة متسع عندك للخيال في ما يليه من شهور، قلت:" من يدري" لعل كلماتي تصير أكثر رسوخاً عندك إذا كانت مدونة بحيث يحفظها لك الحبر والورق، ويتيح لك امكانية استرجاعها في كل حين، فهل كنت تقرأين؟.. لا أعرف.. لكني أعرف بأنني سأظل أتذكرك في سبتمبر من هذا العام وفي كل عا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق