الثلاثاء، 17 أغسطس 2010

ما بين إنتلجنسيا الغالريهات وعامة الشعب..معارض تشكيلية بعيداً عن صالات العرض

ما بين إنتلجنسيا الغالريهات وعامة الشعب

معارض تشكيليّة بعيداً عن صالات العرض
تقرير: هشام الطيب
معرضٌ تشكلي، لوحات بمقاساتٍ مُختلفة، مُعلقة بإحكام على جدارٍ يقعُ على إحدى شوارع المدينة. جماهيرٌ مُحتشدة، والمارّة ينظرُون نحو اللون، كلٌ تجذبه قوّة اللوحات المُعلقة على الجُدران، أو الموضُوعة على المسَاطب، جماهير معارض الشارع هنا يبدُون مألوفين جداً، كانوا من عامّة الناس، فبعضهم كان يجلس على بنبرٍ بجوار ست الشاي، والبعضُ الآخر كان ماراً بالشارع، عن طريق الصُدفة، فاستوقفته فكرة اللوحات. عامة الجمهور هُنا ليس مكرراً بتلك الشخوص التي احتكرت مُشاهدة الأعمال التشكيلية لنفسها داخل المراكز و صالات العرض الخاصة.
هكذا كان مشهد معارض التشكيل التي تُقام في شوارع مدينة الخرطوم، تلك المعارض التي وصفها كثيرٌ من المهتمين بأنها ناجحة بنسبة عالية جداً من ناحيّة تعميم التشكيل لكلِ فئات المُجتمع السُوداني، بدلاً من احتكار عرضه على فئات معيّنة داخل صالات العرض المُغلقة.
فهنالك تجارب عديدة لمعارض أقيمت في أماكن عامة، الشوارع، كان من بينها معرضاً تشكيلياً أقيم قبل وقتٍ من الآن للفنّان التشكيلي برير مُحي الدين بشارع المكْ نمِر بالخرطوم، بالقرب من المركز الألماني "جوتة"، وقد افتتحت ذلك المعرض "حليوّة"، ست الشاي، سألنا برير عن الأسباب التي دفعته لإقامة المعرض بعيداً عن صالات العرض، في شارع عام، خاصة وأنها كانت تجربة مميزة كما وصفها وأشاد بها الكثير من المهتمين، وبالرغم من أنها لم تكُن الأولى لفنان تشكيلي سوداني، فهنالك الكثير من التشكيلين سبق وأن أقاموا معارضهم في عدد من الشوارع، فكانت تجاربهم في عرض أعمالهم خارجة عن المعتاد، يقول برير:(الدافع الأساسي من إقامة المعرض في الشارع هو رؤيتي التي تتمثل في أنّ المُبدع في حالة هزيمة دائماً؛ فهو في الغالب لا يستطيع وبسبب التعقيدات المحيطة به أن يوصل أفكاره لعامة النّاس، إذ نجد أن التشكيل بصورته الفنيّة العامة قد أصبح محتكراً لفئة معينة من الجماهير، يمكن حصرها في تلك المجموعات التي تتردد على المراكز الثقافية باستمرار، أو في طبقة معينة تتردد على الغالريهات الخاصة لتروّح عن نفسها وتُشبع رفاهيتها من خلال اقتناء الأعمال التشكيلية، وبهذا يكون الفن التشكيلي محصُور في نطاق ضيّق، ويصعب إشراك عامّة الناس فيه إلا من خلال التمرُّد على النمط المُعتاد؛ بإقامة المعارض في الأماكن العامة/ الشوارع التي يتواجد فيها الجميع).
وعن تقييم تجربته في المعرض ورسالته الفنيّة يقول برير: ( كانت تجربتي ناجحة؛ لأن رسالتها تتمثل في إيصال تأكيد واضح للجميع مفاده أنّ القدرّة على الإحساس بالجمال ليست مُحتكرةً لشخوص بعينهم، إنما هي موجودة لدى أي شخص، رغم الظرُوف؛ فالإحساس حالة نفسيّة، لا يُشترط فيها بالضرورة وجُود مكان وجمهور نوعي) وواصل قائلاً:(هنالك وهم سائد بأن الإبداع التشكيلي له شخوص بعينها تفهمه وتهتم به وهذا حديثٌ لا أساس له من الصحة).
وفي المقابل لا أحد يُنكر أنّ المراكز الثقافية التي بها صالات عرض وبقيّة الغاليرهات قد أسهمت بالتعريف والارتقاء بالحركة التشكيلية في السودان، لكن هنالك اتجاهات واضحة من قبل الكثير من التشكيلين تُشير إلى أنْ تلك الصالات تُصبح مكاناً محتكراً لشخوص بعينهم، كما تصبح مكاناً تجارياً يتعامل فيها الجمهور مع اللوحات على أساس أنها سلعة فقط، أكثر من كونها قطعة لها قيمتها الفنيّة، في حين يرى الكثير من المُختصّين في التشكيل أن "الغاليري" مكاناً للعرض والتنافس الإبداعي، قبل أن يكون مكاناً لبيع اللوحات، والمُلاحظ للمهتمين _ وهو مثار الجدل هنا _ أن تلك المعارض التي تقام في صالات المراكز الثقافية، أو في الغاليرهات الخاصة، لم تُسهم كذلك في توسيع القاعدة الجماهيرية للفن التشكيلي بصورته الإقليمية، فالذي يزُور معرضاً تشكيلياً بإحدى صالات العرض الخاصة أو صالات المراكز الثقافيّة سيجد أنّ غالبية الزوار شخصيات مُكرّرة عند كل معرض، وبقيّة الزوّار من الأجانب؛ وهم الأكثر شراءً لتلك اللوحات وهذا يبين أنّه في السُودان لم تُصبح اللوحة التشكيلية من أساسيّات الحياة الاقتصادية، ولم تكُ جزءاً أساسياً – حتى الآن- من فنيّات الديكور وتجميل المباني والأماكن بشكلٍ عام؛ لذا فقد ينظر لها البعض على أنها للمشاهدة، أو هي دعوّة للتأمل في أحيان كثيرة، و سلعة فنيّة في أحيانٍ قليلة.
سألنا عبد الرحمن نور الدين رئيس الاتحاد العام للتشكيلين السودانيين عن مبادرات الاتحاد ودوره تجاه توفير صالات لعرض الأعمال التشكيلية فقال: (درج الإتحاد رغم المعاناة التي يمرٌّ بها على إقامة معارض جماعيّة لأعضائه، ففي دار الاتحاد المستأجر الجديد توجد ثلاثة صالات للعرض؛ وهي مفتوحة لجميع أعضاء الإتحاد لإقامة معارضهم التشكيلية)، هذا وقد اجمع الكثير من المختصيّن أن المعارض التشكيلية الجماعية تخطو بالفنّان؛ خاصةً خريجي كلية الفنون الجُدد أولى الخطوات فهي مشجعةً لهم للدخول في منافساتٍ إبداعيّه داخل المُجتمع التشكيلي بصورةٍ خاصة، ومع مُجتمع المُهتمين بالتشكيل بصورةٍ عامة كما نفى نور الدين الاتهامات التي وجّهت للاتحاد من قبل البعض والتي تشير إلى أن الفنان يواجه تعقيدات كثيرة لإقامة معرضه في دار الاتحاد قائلاً: ( كل ما يحتاجه الفنّان لإقامة معرضه في إحدى صالات دار الاتحاد هو أن يكون مستوفياً لشروط العضويّة فقط).
سألنا نور الدين أيضاً عن صالات العرض الحكوميّة وهل هي متاحة للجميع فقال: (توجد صالة واحدة فقط وهي بالمجلس الأعلى للثقافة والفنون، وهي صالة غير مهيأة تماما، وقد ظللنا خلال طيلة تاريخ الحركة التشكيلية لأكثر من 50 سنة نلهث وراء تطويرها لأنها تفتقر للحد الأدنى من المقومات والإمكانيّات).
هذا فقد أجمع الكثيرُون من التشكيليين والمهتمين بأن للتشكيِّلين في السودان آمال وطموحات عريضة، كما أن لهم رؤى وتجارُب عميقةً، تحملُ في جوفها العديد من الأفكار التي من شأنها أن توسِّع دائرة الجمهور الإقليمي للفن التشكيلي، والتي من شأنها أن ترتقي بالفن التشكيلي في السوداني إلى مصافٍ عالميّة مُميزة، لكنّ الكثيرون يرون أنه لابُّد أن تتوسع قاعدة الفن التشكيل بصورةٍ إقليمية في الأساس، ولا يستبعدون حدوث ذلك التوسع بالرغم من حصار التشكيليين بعدد من الإشكالات التي من أبرزها التهميش الذي يواجهونه من قبل الدولة، ومن مجالسها الفنيّة التي يرون أنها لم تكُن سوى رمزاً تضليلياً للاهتمام بالثقافة والفنون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق